قراءة للقانون عدد 18 لسنة 2025 المتعلق بالأحكام الاستثنائية لانتداب خريجي التعليم العالي ممن طالت بطالتهم
يُعدّ القانون عدد 18 لسنة 2025 المؤرخ في 22 ديسمبر 2025 والمتعلق بالأحكام الاستثنائية لانتداب خريجي التعليم العالي ممن طالت بطالتهم بالقطاع العام والوظيفة العمومية من النصوص القانونية ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي العميق، إذ يأتي في سياق وطني يتسم بارتفاع نسب البطالة، خاصة في صفوف أصحاب الشهائد العليا، وتفاقم الإشكاليات الاجتماعية المرتبطة بالإقصاء الاقتصادي وضعف الإدماج المهني.
ويكتسي هذا القانون أهمية خاصة بالنظر إلى كونه يتضمن آلية استثنائية للتشغيل خارج الأطر التقليدية للانتداب، مستندا إلى مقاربة اجتماعية تهدف إلى معالجة وضعيات بطالة مزمنة طال أمدها، وهو ما يفرض قراءة تحليلية قانونية تتجاوز العرض الشكلي للنص إلى تفكيك خلفياته، واستجلاء أهدافه، وتحليل إيجابياته، والوقوف عند الإشكاليات القانونية والعملية التي قد تعترض تطبيقه.
القانون عدد 18 لسنة 2025
أولا: السياق العام لصدور القانون
1. السياق الاقتصادي
يعاني الاقتصاد التونسي منذ سنوات من تباطؤ النمو، وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين خريجي التعليم العالي، حيث تحولت الشهادة الجامعية في عديد الحالات من وسيلة للترقي الاجتماعي إلى عامل هشاشة اقتصادية. وقد فشلت السياسات العمومية السابقة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين، سواء عبر القطاع العام أو الخاص، وهو ما عمّق الشعور بعدم العدالة الاجتماعية.
2. السياق الاجتماعي
أفرزت البطالة الطويلة الأمد آثارا اجتماعية خطيرة، من بينها الفقر، وتآكل الطبقة الوسطى، وتنامي الاحتقان الاجتماعي، إضافة إلى الإحساس بالإقصاء لدى فئات واسعة من الشباب. ويُفهم هذا القانون في هذا الإطار كأداة استثنائية لاحتواء توترات اجتماعية متراكمة.
3. السياق السياسي
يأتي هذا القانون في ظل توجه سياسي يقوم على تكريس الدور الاجتماعي للدولة، وتعزيز تدخلها المباشر في معالجة الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في مرحلة تتسم بإعادة تشكيل السياسات العمومية والبحث عن شرعية اجتماعية عبر قرارات ذات طابع اجتماعي مباشر.
ثانيا: الإطار القانوني والمنهجي للقانون
1. الطبيعة الاستثنائية للانتداب
ينص الفصل الأول من القانون على اعتماد الانتداب الاستثنائي، وهو ما يمثل خروجا عن القواعد العامة للانتداب بالوظيفة العمومية، التي تقوم أساسا على مبدأ المناظرة. ويستند هذا الاستثناء إلى مبرر اجتماعي يتمثل في طول مدة البطالة، وهو ما يطرح تساؤلات قانونية حول مدى التوازن بين مبدأ المساواة في تقلد الوظائف العمومية ومبدأ العدالة الاجتماعية.
2. اعتماد المنصة الرقمية
إحداث منصة رقمية لتجميع وترتيب ملفات المترشحين يمثل توجها حديثا في التصرف الإداري، ويهدف من حيث المبدأ إلى ضمان الشفافية والموضوعية. غير أن فعالية هذه الآلية تبقى رهينة وضوح المعايير، ودقة المعطيات، وقدرة الإدارة على التثبت منها.
ثالثا: تحليل معايير الترتيب والانتفاع
1. معيار السن
منح الأولوية لمن تجاوزوا سن الأربعين يعكس توجها اجتماعيا واضحا يهدف إلى إنصاف فئة أصبحت فرص إدماجها في سوق الشغل شبه منعدمة. غير أن هذا المعيار قد يثير جدلا حول إقصاء خريجين أقل سنا يعانون بدورهم من بطالة طويلة.
2. معيار سنة التخرج
اعتماد مدة تفوق عشر سنوات منذ التخرج كعنصر تفاضلي يعزز منطق معالجة البطالة المزمنة، لكنه يثير إشكالية تقييم الكفاءة المهنية ومدى مواكبة المعارف لسوق الشغل الحالية.
3. معيار فرد من كل عائلة
هذا المعيار يعكس بعدا اجتماعيا تضامنيا، إلا أنه يطرح صعوبات عملية في التثبت من الوضعية العائلية، وقد يفتح الباب أمام إشكاليات في التطبيق.
4. الوضعية الاجتماعية
يُعد هذا المعيار الأكثر مرونة والأقل تحديدا، وهو ما يفرض إصدار نصوص ترتيبية تضبط مفهوم الوضعية الاجتماعية ومعايير تقييمها تفاديا للتأويل والانتقائية.
رابعا: شروط الترشح وحدود الإقصاء
يحدد الفصل الثالث جملة من الشروط تهدف إلى توجيه هذا الإجراء نحو الفئات الأكثر هشاشة، من خلال استبعاد من لهم مصادر دخل أو تمتعوا بتسويات مهنية أو قروض كبرى. ورغم وجاهة هذه الشروط من حيث المبدأ، فإنها قد تقصي بعض الحالات التي تعاني هشاشة فعلية رغم توفر أحد هذه الشروط بشكل شكلي.
خامسا: آليات الانتداب والتنفيذ
ينص القانون على اعتماد الانتداب بالملفات وعلى دفعات تمتد لثلاث سنوات، وهو ما يمنح الدولة هامشا زمنيا للتدرج في الإدماج الوظيفي. غير أن نجاح هذه الآلية يظل مرتبطا بتوفر مواطن الشغل الفعلية، وبقدرة المؤسسات العمومية على الاستيعاب دون المساس بجودة الخدمات أو التوازنات المالية.
سادسا: إيجابيات القانون
تكريس الدور الاجتماعي للدولة في معالجة البطالة.
الاعتراف بالبطالة طويلة الأمد كإشكالية قائمة بذاتها.
اعتماد معايير اجتماعية إلى جانب المعايير الأكاديمية.
محاولة تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية والإنصاف.
سابعا: إشكاليات التطبيق والتحديات العملية
غياب النصوص الترتيبية المصاحبة في مرحلة أولى.
خطر تضخم كتلة الأجور بالقطاع العام.
صعوبة التوفيق بين الاستثناء ومبدأ المساواة.
مخاطر الطعن القضائي في حال غياب الشفافية.
ثامنا: دخول القانون حيز التنفيذ وآفاقه المستقبلية
يدخل القانون حيز التنفيذ مباشرة بعد نشره بالرائد الرسمي، غير أن الأثر الحقيقي له يبقى مرتبطا بسرعة إصدار الأوامر التطبيقية، ونجاعة المنصة الرقمية، ووضوح الرؤية الحكومية في ما يتعلق بإصلاح الوظيفة العمومية.
خاتمة
يمثل القانون عدد 18 لسنة 2025 محاولة تشريعية جريئة لمعالجة أحد أعقد الملفات الاجتماعية في تونس، وهو ملف بطالة خريجي التعليم العالي. وبين الأهداف الاجتماعية المشروعة والإكراهات القانونية والاقتصادية، يظل هذا النص رهينا بحسن التطبيق، وبمدى قدرته على تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية واحترام مبادئ الدولة القانونية. ويبقى الرهان الحقيقي في تحويل هذا الاستثناء إلى مدخل لإصلاح شامل ومستدام لسياسات التشغيل في تونس، لا مجرد حل ظرفي لإشكالية متراكمة.


شكرا على تفاعلكم معنا